قصة نبى الله إبراهيم عليه السلام - ج2
وما زال الحديث عن قصص الأنبياء ، ولازلنا في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام ، فبعد أن نجاه الله تعالى من النار التي رماهُ فيها قومُه ، ولما لم يَعُدْ له في المُقامِ كثير عمل ولا فائدةٍ مرجوةٍ في إيمان قومه عَزَمَ أمره على الهجرة قال الله تعالى عنه " وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين " ، فخرج مهاجراً إلى مصر علَّه يجد ملاذاً آمناً له ولأهله، فلما بلغ مصر واستقرَّ له الحال والمَقام وعاش هو وزوجه فيها مدةً من الزمن ، سمع به وبزوجته سارة مَلِكُ مصر ، وكان جباراً طاغيةً لا يسمع برجلٍ عنده امرأة جميلة إلا وأخذها من زوجها عنوةً ، وقد أوتيت سارةُ من الحسن والجمال ما أبهرَ ذلك الملك !
فجاء بعض حاشية الملك فقال : إنَّ هاهنا امرأةً لا ينبغي أن تكون إلا لك ، فطلب الملكُ الطاغية أن يأتوا بإبراهيم ليسأله عن صلة القرابة بينه وبين سارة ، فلما وقف بين يدي الملك وسأله عنها قال : هي أختي فلما رجع إلى زوجه قال : يا سارة : ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري وغيرُك ، وإنَّ هذا سألني عنكِ فأخبرته أنك أختي فلا تكذبّيني . والسبب في قول إبراهيم بأنها أختُه ، أن هذا الملك كان من دينهِ أنه لا يغتصب إلا مَنْ كان لها زوج ، أما من كان لها أخ فإنه لا يقربُها .فلما همَّت سارة بالانصراف إلى الملك دخل إبراهيم يتوضأ ويصلي ويدعو .. فخرجت سارة حتى دخلت على الملك في قصره فلما رآها فُتن بها فسألها عن إبراهيم فقالت : أنها أختهُ ! لكنَّ هذا الفاجر أراد بها سوءاً فمدَّ يدَهُ إليها يريد أن يَجذبها نحوه فيَبست يدهُ وأُصيب بالصَّرع فقال لها وقد تملّكه الخوفُ والذعر : ادْعي اللهَ لي ولا أضُّرك ، فدعت اللهَ فأُطلق ، ثم تناولها بيده الثانية فأصيب بالصَّرع ويبست يده ، فقال : ادْعي اللهَ لي ولا أضُّرك .. فَدَعَتْ اللهَ فأُطلق ، ثم دعا الملك بعضَ حُجَّابه فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان إنما آتيتموني بشيطان ! ثم أَمَرَ لها بخادم يقوم بخدمتها ، فأهداها هاجر .....
خرجت سارة من عند الملك إلى بيتها وقد عصمها الله وصانها إكراماً لها ولإبراهيم عليه السلام فوجدت إبراهيم قائماً يصلِّي فأومأ بيده : مَهْيَم ، فقالت : ردَّ الله كيد الكافر في نحره .
قرَّر إبراهيم عليه السلام أن يهاجر من مصر ، وكانت سارة عقيماً لا تلد وكان يُحزنها أن ترى زوجَها وحيداً ليس له ولد ، فأشارت على زوجها أن يدخل بهاجر بعد أن وهبتها له ، لعل الله تعالى أن يرزقَه منها بغلام ، فاستجاب إبراهيم لرأيها فتزوج هاجر وأنجبت له إسماعيل ، ففرح إبراهيم بهذا الغلام وأشرقت نفسُه بولادته بعد أن بلغ من العمر ستاً وثمانين سنة ، وفرحت سارة به ولكنَّ الغيرة الذي جُبلت عليه النساء ما لبث أن دبَّ في قلبها ، وأصابها الهم والحزن والألم وأصبحت لا تطيق النظر إلى الغلام ، فلم تجد لقلبها العليل إلا أن تطلب من إبراهيمَ أن يُقصي هاجرَ وابنَها عن دارها وعن عينها ، وذلك الحزن الذي خيّم على قلبها كان له أبلغ الحكم الربانية في انتقال إبراهيم عليه السلام من مصر إلى مكة لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى ، فكم من حزنٍ جلب فرحاً وسرورا والمرء لا يشعر !
أخذ إبراهيم عليه السلام زوجَه هاجر وولدَها الرضيع مهاجراً إلى أرضٍ اختارها الله تعالى لإبراهيم ، فقطع المفاوز والصحاري والقفار تلفحُه حرارةُ الرِّمال ولهيب الشمس الحارقة ، ولكن يُسكِّن تعبه أنها هجرةٌ في ذات الله تعالى ، فلما بلغ جبال مكة السوداء الشاهقة والتي يُخَيّل للناظر لها أنها أوحش ما يكون ومرّ بهم وادياً ليس فيه أحدٌ من البشر وضع إبراهيمُ زوجَه وولدها الرضيع ووضع معهما جراباً من تمر وسقاءً من ماء ثم انطلق إبراهيم صوب الشام ، فتبعته أمُّ إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنس ولا شيء ، وكأن لسان حالها يقول : إنه الموت والهلكة ! إنه الضياع بعينه ! وأعادت عليه السؤال مراراً وتكراراً ، لأن الخوف والوحدة والجوع والخوف والصمت الرهيب في هذا الوادي لا يسمح لها أن تلوذ بالصمت وتصمت عن محاججة زوجها الطيب الرحيم ، إنها تسأل زوجَها وهو لا يجيب بشيء ، ثم انتهت وأدركت شيئاً ..
فقالت : آلله أمرك بهذا ؟
قال : نعم قالت : إذن لا يُضَيِّعُنا ثم رجعت .
تأملوا هذا اليقين وذلك التوكل والإيمان من هاجر عليها السلام ، إنها في مكان كلُّه ظلمةٌ ووحشة وخطر ، وهي في ميزان الأسباب المادية في عداد الهالكين ، ولكنها في ميزان الله الذي لا تحكمه الأسباب من الناجين ، آلله أمرك بهذا إذن لا يضيعنا ، ما أجملها من عبارة وما أعظمه من قلب ينبض إيماناً ويقيناً وتوكلاً ، وهكذا يصنع اليقين والإيمان والتوكل بأهله .
لما غادر إبراهيم عليه السلام المكان وصعد الثنية حيث لا تراه زوجه هاجر ، وحضرته شفقة الزوج على زوجه وحنان الوالد على ولده وعندها استقبل بوجهه البيت ورفع يده إلى الربّ الرحيم الجليل الذي أمره بذلك ثم دعا بهؤلاء الكلمات : " ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " إنها دعوات بلا تفصيل أو تنميق ، لأنه يوقن من قرارة قلبه أن الله يعلم الحال والمقام وهو وحده تعالى بيده تصريف الأمور ولن يضيّع نبيه .. ثم انحنى إبراهيم عليه السلام متجهاً إلى الشام .
تلفتت أم اسماعيل في هذا الوادي الموحش ومن حولها الجبال العالية ، لكنها عادت إلى نفسها وأدركت أن الله تعالى معها ، ومن كان الله تعالى معه فممَ يخاف ؟ فأخذت ترضعُ ولدها وتشرب من ذلك الماءِ الذي معها حتى إذا نَفَذَ الماء عَطِشت وعَطِشَ ولدُها ، وجَعلت تنظر إليه وهو يتلوَّى ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصَّفا أقرب جبل إليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل من أحد ، ثم هبطت من الصفا حتى بلغت الوادي ، ورفعت طَرْفَ درعِها ثم سعت سعيَ الإنسانِ المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليه تنظر هل ترى من أحد فلم تر أحداً ، فَعَلتْ ذلك سبع مرات .. قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم " فذلك سعيُ الناس بينهما " رواه البخاري
لما أشرفت هاجرُ على المروة سمعت صوتاً فقالت : صَهْ ، تريد نفسها فقالت : قد أسمعتَ إن كان عندك غِواث ، فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم ، فبَحَثَ بعقبه أو قال بجناحِه حتى ظهر الماء ، فَجَعَلَتْ تحوِّضُه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور .. فشربت وأرضعتْ وليدها فقال لها المَلَك مُطَمْئِناً : لا تخافوا الضيعة [ أي لا تخافوا الضَّياعَ والحاجة ] فإنَّ هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلامُ وأبوه وإن الله لا يُضِّيع أهلَه ...
يالِرحمة الله ..كم بشارة بشرها المَلَك ؟
بشَّرها بعودة زوجها إبراهيم ، وبشَّرها بأن هذا الرضيع سيسلم من الأذى والمرض وسيبلغ حتى يصير غلاماً قوياً ، وبشرها بأن هذا المكان سيكون مكاناً مباركاً وبيتاً لله تبارك وتعالى ، إنها بشارةُ أمانٍ لها ولإسماعيل ولزوجها ، لأن الله لا يضِّيع أهلَه ...
بقيت أم إسماعيل وابنها كذلك في غربتهم ووحدتهم عند هذا الماء وهذا الخير حتى مرَّتْ بهم جماعةً قادمين من اليمن يقال لهم جُرْهم ، فنزل هؤلاء أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً ..
فقالوا : إنَّ هذا الطائرَ ليدور على الماء وعَهْدُنا أنَّ هذا الوادي ليس فيه ماء ، فأرسلوا رجلاً فإذا به يرى الماء ، فرجع فأخبرهم خبر الماء فأقبلوا عليه وأمُّ إسماعيل عند الماء
فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندكِ ؟
فقالت : نعم ولكن لا حقَّ لكم في الماء .
قالوا : نعم .
قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فَأَلْفى ذلك أمُّ إسماعيل وهي تُحبُّ الأنس ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم ، حتى إذا استوطنوا حول البيت وشبَّ الغلام وتعلمَّ العربية منهم وأعجبهم زوَّجُوه امرأةً منهم " رواه البخاري
ثم قضوا أعواماً في مكة المباركة وماتت هاجر من بعدُ ، فجاء إبراهيم بعد سنين عدة يُطالع ما بلغ الحال بهاجر وإسماعيل فلم يجد إسماعيل فسأل امرأتَه عنه فقالت : خرج يبتغي لنا . فسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بِشرٍّ وضيقٍ وشدة فشكتْ إليه ، فلما رأى منها الجزع والاعتراض وعدم الرضى عن الله قال : إذا جاء زوجكِ ( إسماعيل ) فاقرئي عليه السلام وقولي له يُغَيِّر عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنه آنسَ شيئاً فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم جاء شيخٌ كذا وكذا .قال : هل أوصاكم بشيء ؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول : غير عتبة بابك ، قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقكِ الحقي بأهلك ، فطلَّقها وتزوج منهم بأخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا قال : كيف أنتم ؟ وسؤال إبراهيم هذا السؤال وحرصُه عليه لأن الجواب هو محكُ الإيمان والتسليم والرضى عن الله تعالى ، فإذا وَجَدْتَ المرأة وقد أنعم الله عليها بالزوج والولد والمسكن والمركب والأموال والعافية ثم تقول : نحن في شدة وفي ضيق وتنسى النعم التي تتقلب فيها صباح ومساء فاعلم أنها لا تخلوا من حالات ثلاث :
- إما جاهلة تحتاج إلى تعليم وتربية
- أو ناسية تحتاج إلى تذكير وموعظة
- وإمَّا جاحدة تحتاج إلى مَنْ يؤدِّبها
سألها إبراهيم : كيف أنتم ؟
- قالت : نحن بخير وسَعَهَ وأثنت على الله
- قال : ما طعامكم ؟
- قالت : اللحم
- قال : ما شرابكم ؟
- قالت : الماء
- قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولم يكن لهم يومئذٍ حَب ولو كان لهم لدعا لهم فيه " رواه البخاري
فقال إبراهيم بعدما أثنت على الله خيراً قال : فإذا جاء زوجكِ فاقرئي عليه السلام ومُرِيهِ يثبّت عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟
قالت : نعم أتانا شيخٌ حسنُ الهيئة وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته ، فسألني عن عيشنا فأخبرتُه أنَّا بخير .
قال : فأوصاكِ بشيء ؟
قالت : نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرُك أن تثبت عتبةَ بابك
قال ؟ ذاك أبي وأنتِ العتَبة أمرني أن أُمسْكَكِ ...
ثم لبث إبراهيم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيلُ يَبري نبلاً له تحت دوحةٍ قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد [ من السلام والعناق والحب والمودة ] ثم قال يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال فاصنع ما أمرك ربُّك . قال : تعينُني ؟ قال : وأعينُك .قال فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً ، وأشار إلى أكمة مرتفعةٍ على ما حولَها ، ورفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني وهما يقولان : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " ...
هذه لمحات من قصة الخليل إبراهيم عليه السلام وفيها من اللطائف والعبر ما لو تأمله المؤمن لوجد أن الإيمان والتوكل واليقين والصبر والتسليم هو أعظم ما اتصف به إبراهيم وأهل بيته عليهم السلام ...
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]