قصة نبى الله نوح عليه السلام
وما زال الحديث عن قَصَصِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فبعدَ آدمَ عليه السلام سيكون لنا موعدٌ مع قصة نوح عليه السلام .. هذه القصةُ القرآنيةُ التي تصف تجربةَ من تجارب الدعوة ودورةً من دورات العلاجِ الدائم للبشرية وشوطاً من أشواطها في الصراع الخالد بين الخير والشر والهدى والضلال والحقِ والباطل .. قصة نوح تكشف عن ثلاث حقائق :
الأولى : عن صورة من صور البشرية العنيدة الضالة التي تتكبَّر عن قَبٌولِ الحق وتُعرض عن سماع الهدى وتستهزئ بمن يحملُ مصباحَ الهدايةِ الموصل إلى رضوان الله وتسعى جاهدةً إلى تشويه صورةِ الحق أمام الناس كما فعل ذلك قومُ نوح .
الثانية : تكشف هذه القصة عن الجهد المُضني والمُرهق الذي بذله نوحٌ عليه السلام مع قومه ، وعن مدى صبره الجميل وإصراره الكبير لهدايةِ قومه ، حتى لبث في دعوتهم ألفاً إلا خمسين عاماً، مع أنه لا يتقاضى أجراً على دعوته ، ولا يطمع مكانةً بين قومه إنما منهجهُ مثل ما قال الله تعالى عنه " لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الله " .
الثالثة : تكشف قصة نوح عن صورة من صور الرحمة الإلهية العظيمة الرحيمة في رعاية الإنسان وفي انتشاله من الضلال إلى الهدي ومن الكفر إلى الإيمان مهما استغرق ذلك من الزمن الطويل أو الجهد المرير ، لأن القضية الكبرى هي: الإعذارُ والإنذار قبلَ دخولِ الجنةِ أو النار .. فرحمته سبحانه وتعالى تجلَّت في إرسال الرسل وإنزال الكتب ليقيم الحجة على العالمين ، فلا يبقى عذراً لمحتج " لئلا يكون للناس على الله حجةً بعد الرسل " .....
أيها الأخوة ... نوحٌ عليه السلام نبيٌّ من الأنبياء ومن أولى العزم من الرسل ، يرجع نسبُه إلى جدِّه إدريس ، وينتهي نسبه إلى شيث ابنِ آدمَ عليه السلام ، وبين نوح وآدم ما يزيد عن ألف سنة ..... روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " كان بين آدم ونوح عَشْرَةُ قرون كلُّهم على شريعة من الحق ، فلما اختلفوا بعث الله النبيين والمرسلين وأنزل كتابه فكانوا أمة واحدة " رواه الحاكم (3654)
ونوح هو أول رسولٍ بعثه الله إلى أهل الأرض ، ولا يعني هذا أنه لم يسبقه أحدٌ من الأنبياء ، فشيث وإدريس وآدم عليهم السلام كلُّهم أنبياء وكلُّهم قد بعثوا قبله ولكن لم يكونوا رسلاً إنما كانوا أنبياء ، والفرق بين الرسول والنبي أن الرسول هو الذي أُوحي إليه بشرعٍ وأُمر بتبليغه ، وأما النبي فهو الذي أُوحي إليه بشرع ولكن لم يؤمر بتبليغه .
عاش نوح عليه السلام عمراً طويلاً ، وكان أطول الأنبياء عمراً وأكثرهم جهداً، فقد تحمَّل من الأذى ما لم يتحملْه أحدٌ من الرسل ، فدعا قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، وأقام فيهم تِسْعَ مئةٍ وخمسين عاماً من عمره الدعوي يذكّرُهم ويعظهم ويدعوهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولكنه لم يلق من قومه إلا الإعراضَ والتكذيب والتعذيب، فقد كانت قلوبُ قومهِ أشدَّ من الحجارة ، وعقولُهم أصلبَ من الحديد ، ومع طول المدةِ التي أقامها بينهم لم يُؤمن برسالته إلا قليل كما قال تعالى عنه " وما آمن معه إلا قليل " .....
وقد ذكر بعض المفسرين أن عدد الذين آمنوا معه ثمانون رجلاً وإمرأة ، وهم الذين ركبوا في السفينة ..
دعوةٌ ورسالةٌ عمرها ألف سنة ومع ذلك لم يؤمن إلا ثمانون!! .. هذه رسالة واضحة لليائسين والمحبطين من دعوة أزواجهم وأولادهم ومجتمعاتهم أنْ اصبر كما صبر الدعاة قبلكم تُؤْجَرون على الدعوة والبلاغ ، وأما الهداية فهي من عند الله وحده ، دعوة عمرها ألف سنة لم يؤمن إلا ثمانون ، أيُّ صبرٍ صبره نوح!! وأيُّ سعةِ صدر وانشراح قلب قذفه الله في قلب نوح حتى نال أعلى درجات الرسل!! فكان مِنْ أوَّل أولي العزم من الرسل .....
أيها الإخوة .. بين آدم ونوح عَشْرةُ قرون فقط ، أي ألف سنة ، ومع ذلك انتشرت الأصنام وعُبدتّ من دونِ الله تعالى ، وذلك بفعل الشيطان ووساوسه وخطواته .. أليس هو الذي قال لربه تعالى " أنظرْني إلى يوم يُبعثون " ... لقد بدأ الشيطان المعركة مع الإنسان بهمةٍ عالية ، وبدأ الإغواء حتى تمكّن من نشر الشرك بين الناس بعد أن آمنوا بالله في مدة وجيزة ، وما أسرع ما ينسى الإنسان وما أسرع ما يتنكَّر لخالقه ..
لقد أشارت الآيات القرآنية إلى أن نوح عليه السلام بُعث إلى قومٍ قد أشركوا بالله وعبدوا الأوثان ، اعتقدوا أنها تضر وتنفع وتُبصر وتسمع ، وأنها تجلبُ لهم الخير وتدفع عنهم السوء ، ولم يُقنعهم بذلك إلا الشيطان، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى " وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتكم ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سُوَاعا " قال : هذه أسماءُ رجالٍ صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أنِ إنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسمُّوها بأسمائهم ففعلوا فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العِلم [ أي تقادم ] عُبِدتْ " رواه البخاري .
من أجل ذلك جاءت الشريعة تحرِّم التصوير والرسم باليد لكل ذي روح وتحرم اتخاذ التماثيل أياً كان الغرضُ منها قال صلى الله عليه وسلم : "إنَّ أشدَّ الناسِ عذاباً يومَ القيامة المصورون ، يُقال لهم : أحيوا ما خلقتم "رواه البخاري ، وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة ولا تماثيل " رواه البخاري .
صبَر نوحٌ على دعوة قومه وعلى إيذائهم ، فقد اتهموه بالسَّفه والضلال كعادة الجهلة والمتجاهلين والرافضين للحق من علية القوم في كل أمة ، كما قال الله تعالى " قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين " واتهموه بالجنون " وقالوا مجنون وازدجر " وهدَّدوه بالرجم بالحجارة " قالوا لئن لم تنته يا نوحُ لتكونن من المرجومين " ..
رَوَى أهلُ التفسير أن نوحاً كان يأتي قومه فيدعوهم إلى الله ، فيجتمعون عليه ويضربونه ويخنقونه حتى يغشى عليه ، ثم يَلُفُونه في حصير ويرمون به في الطريق ويقولون سيموتُ بعد هذا اليوم ، فيُعيد الله سبحانه وتعالى إليه قوَّته ، فيرجعُ إليهم ويدعوهم إلى الله فيفعلون بمثلَ ذلك ، وهو يصبر ولا يدعوا على قومه لعلَّ الله تعالى يخرج من أصلابهم من يعبد اللهَ ولا يشركُ به شيئاً.
ومع المدة الطويلة لم يؤمن معه إلا قليل ، وكان كلما انقرض جيلاٌ جاء بعده جيلُ أخبثُ منه فقد كانوا يوصون أبناءَهم بعدم الإيمان بنوحٍ ولا بدعوته ، لقد بلغ من خوفهم وحقدهم أنْ تتواصى الأجيال على الكفر بدعوة نوح عليه السلام ، أي أمة هذه التي لا تمنح لنفسها لحظات التأمل والتفكر والإصغاء للحق!!
لما بلغ الجُهد من نوح مبلغاً عظيماً ، وأخبره ربُّه أنه لن يؤمن معه إلا قليل " وأُوحى إلى نوحٍ أنه لن يؤمن من قومك إلا مَنْ قد آمن " ، عند ذلك دعا نوح عليه السلام على قومه " قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا "، وأُمر نوح أن يصنع سفينة ، مما يدل على أن عذاب قومه هو الغرقُ والطوفان " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " ، فأخذ نوح يصنع السفينة ، سفينةٌ في وسط الصحراء ، مما جعل قومه يمرُّون عليه ويسخرون منه ويقولون يا نوح : قد كنتَ بالأمسِ نبياً واليومَ قد صرت نجارا ، ويجتمعون عليه ويضحكون ، وما يدرون أن العذاب قريب ، وأنالهلاك أدنى من شراك نعلهم ، وكان ردُّ نوح على سخريتهم أبلغ الردود " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ويحلُّ عليه عذابٌ مقيم " ... يقولها نوح ثقةً بالله وبوعده ونصره ...
ولما انتهى نوح من صنع السفينة ، أمره الله أن يحمل معه أهلَه إلا امرأته لأنها كانت كافرة ، وأن يحمل معه المؤمنين وقد كانوا ثمانين رجلاً وامرأة ، وأن يحمل فيها من الحيوانات ومِنْ سائر ما فيه روح ومن المأكولات ومن كلِّ زوجين اثنين ذكر وأنثى ، ثم جعل الله تعالى لنوح علامةً على العذاب وهو أن يفورَ التنور وهو أن ينبع الماء فوق سطح الأرض " فإذا جاء أمرنا وفار التنور " فذلك هو الوقت المناسب لركوب السفينة لتنجو أنت ومَنْ معك من الطوفان المدمِّر .
فلما ظهرت العلامة وفار التنور ركبوا السفينة ، وأنزل اللهُ الماءَ من كل الجهات .. من السماء ومن الأرض واختلطت البحار والأنهار وغرقت الأرض بالماء والطوفان حتى عمَّ الأرض كلَّها على قول أكثر أهل العلم " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمرٍ قد قُدِر * وحملناه على ذات ألواحٍ ودسُر * تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كفر "
ارتفع الماء عن سطح الأرض خمسة عَشَر ذراعاً ولَم ينجُ إلا أصحاب السفينة ، ولكم أن تسألوا عن قلوب أهل الكفر كيف كانت!! وعن أفئدتهم كيف تخلَّعت!! وعن عجبهم من قدرة الله كيف آمنت وأذعنت!! ثم لكم أن تسألوا عن أصحاب السفينة كيف ألقى الله عليهم الطمأنينةَ والسكينةَ والأمن!! والسفينة تلاطمها الأمواج كالجبال من ارتفاعها وقوتها ، كيف كانوا في حفظ الله ورعايته وعنايته ، فما أسعدهم حين آمنوا بالله فنجاهم ، وما أشقى أولئك حين كفروا بالله فأغرقهم ، ولقد قيل إنهم مكثوا في السفينة مائة وخمسين يوماً " وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي غفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين " إن نوحاً ينادي بأعلى صوته لأنَّ صوت الماء النازل من السماء والنابع من الأرض وأصوات الأمواج لا تدع لنوح أن يخاطب بل ينادي .. " قال سآوي إلى جبلٍ يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين " ومِنْ رحمة الله بنوحٍ عليه السلام الأب المشفق أنه لم يرَ ابنه كيف يغرق لأن الموج قد حال بينهما فلم يشاهد ابنَه كيف غرق ، ولو شاهده لآلمه ذلك المنظر المهيب المرعب .
انتهى الطوفان وهدأت الأرض واستقرت السفينة على جبل الجودي ، وأَمَرَ الله تعالى نوحاً ومَنْ معه من المؤمنين أن ينزلوا من السفينة بسلام وأمان وبركات " قيل يا نوح اهبط بسلامٍ منا وبركاتٍ عليك وعلى أمم ممن معك " فنزل نوح ومعه ثمانون رجلاً وامرأة ، ونزلت معه الحيوانات في منظر مهيب ، ويالِرحمة الله تعالى بكل مخلوق ولو كان حيواناً ، ومكث نوح بين قومه مدةً بعد أن نجاهم الله تعالى ثم توفاه ربُّه سبحانه وتعالى ، وقيل إن نوحاً دُفن قريباً من المسجد الحرام والعلم عند الله تعالى .
أيها الإخوة .. تلك قصة نوح عليه السلام وهي آية من آيات الله في كونه وفي خلقه وفي معجزاته الباهرة ، ولقد كانت دعوة نوح عليه السلام على قومه دعوة واحدة فاهتزت لها السماء والأرض واستجاب الله لدعوة نبيه لأنه القريب من عباده إذا دَعوه " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان " ، وتأملوا كيف سخّر الله ما في السماء وما في الأرض من أجل دعوة مظلوم آسفٍ على تكذيب قومه ، إنها إجابة دعاء وأيّ إجابة ،
وهكذا سجَّل القرآن كلماتٍ من نور على صَبْر نوحٍ على قومه وقد كانت ألف سنة ، وهي سابقة لم يسبقه أحدٌ من الأنبياء لا قبله ولا بعده في العمر الدعوي " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلَّم الله ورفع بعضهم درجات "
نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الصبر في طريق الدعوة وأن يجعلنا من أتباع الأنبياء والمرسلين ...
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]