قصة سيدنا آدم عليه السلام ٢ج
ذكرت في الخطبة الماضية قصة أبينا آدم عليه السلام وما أكرمه الله تعالى به من خلقه بيده والنفخ فيه من روحه ومن تعليمه للأشياءَ كلَّها وما كرَّمه به من سجود الملائكة له ، ثم ما حصل له مع إبليس حين أبي السجود لآدم كِبراً وحسداً وما قام به من إغواء آدم حتى خرج وزوجُه من الجنة بَعْدَ النعيم والسكينة والرزق العميم ، ثم ذِكرُنا توبة آدم وقبول التوبةِ من ربه تعالى ، إلا إنه أُمِرَ بالهبوط هو وزوجه إلى الأرض فهبط الجميع لتبدأ قصة الخلافة ومرحلة الغواية .. فيقوم آدم عليه السلام بعد توبة الله عليه بمهمة الخلافة في الأرض وليبدأ الشيطان الرجيم مهمته الخاصة بالإضلال والإفساد والإغواء ...
أيها الإخوة ... في قصة آدم عليه السلام دروسٌ وعبر ..
أولُها / أنَّ آدم عليه السلام هو أصل البشر :
خلقه الله من طين على صورته البشرية الكاملة ، فلم يَأتِ خلقهُ عن طريق التدرُّج من نوعٍ من أنواع المخلوقات أو على صورةٍ من أنواع الحيوانات كما يزعم أصحابُ نظرية دارون الذين يقولون إنَّ أصلَ الإنسان قرد ثم تدرج حتى صار إنساناً ناطقاً على هيئته المعروفة ، وهذا قولٌ باطل لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة ، فالله تعالى خلق آدم من طين ثم نفخ فيه من روحه فصار بشراً سوياً من لحم ودم وأكرمه ربهُ بأن جعله في أحسن صورة كما قال الله " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " ... وقال " ولقد كرمنا بني آدم " وقال " يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك " ... والذين يقولون بنظرية تطور الكون أو الإنسان إنما يريدون أن يفرُّوا من الاعتراف بالخالق سبحانه وتعالى لأنهم لو اعترفوا بأصل الإنسان البشري لاعترفوا بوجود الخالق ، وهم لا يريدون ذلك فراراً من الدِّين والشريعة التي جاءت من عند الله تبارك وتعالى ... فآدمُ عليه السلام بصورته التي خلقها الله بيده هي من أكمل المخلوقات وأجمل المخلوقات وأكرمِها على الله ، ومن قال بأن أصل الإنسان قرد فإنه يكفر كفراً مخرجاً من الإسلام ، لأنه أنكر وجحد آياتِ القرآن الكريم في بشرية آدم عليه السلام .
ثانياً / المهمة الكبرى للإنسان ودوره في الأرض :
إن الإنسان سيدُ هذه الأرض ، ومن أجله خُلِقَ كلُّ شيء فيها من الشمس والقمر والبحار والأنهار والأشجار والنجوم والجبال والدواب والليل والنهار والأرزاق والآجال ...
قال الله تعالى " ألم ترو أن الله سخر لكم ما في السموات والأرض " فالإنسان إذن أعزُّ وأكرمُ وأغلى من كل قيمةٍ ماديةٍ على الأرض ، فلا يجوز إذن أن يُستعَبد أو يُذَل أو يُقهر مقابلَ أي كسبٍ مادي ، لأن هذه الماديات مصنوعةً من أجلهِ ومن أجل إنسانيته .....
ثم إن النظرة القرآنية تجعلُ هذا الإنسان بخلافته عاملاً مهماً في الكون ملحوظاً في هذا النظام ، فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطاتٍ شتى مع السموات ومع الرياح ومع الأمطار ومع الشموس والكواكب ، فلا ينبغي للإنسان المكرَّم بهذه المعالم الكونية أن يكفر بخالقه أو يجحد مولاه أو يكونَ سبباً في إضلال الناس عن طريق صراط الله أو يكون أداةَ حربٍ وإفسادٍ للبشريةِ في أخلاقها أو عبادتها لربها " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " ... فالأرض أصلحها اللهُ بالتوحيد والعدل والحكمة والرحمة ، ويوم أن ينقلب الإنسانُ على موازين الحياة ويتنكَّبُ صراط ربه يكونُ قد أخلَّ بنظام الحياة وأفسد فيها ، وبذلك يَفْقِدُ التكريمَ الرباني ، ويُصبح بطن الأرض خيرٌ له من ظهرها " وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " .
ثالثاً / سجود الملائكة لآدم عليه السلام :
فقد أخذ موضوع سجود الملائكة لآدم عليه السلام جدلاً طويلاً ، فقال بعضهم : كيف تَسْجُدُ الملائكةُ لغير الله ؟ وقال آخرون : هل معنى سجودُ الملائكة أنهم عبدوه ؟
أيها الإخوة :إن السجود لآدم عليه السلام تكريمٌ له وطاعةٌ لله ، ولم يكن سجود عبادةً ، فلقد كان سجودَ تعظيم وتسليم وتحية لا سجود صلاةٍ وعبادة .. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : قال أهل العلم : السجود كان لآدمَ بأمر الله وفرضِه فإنَّ الله تعالى قال " اسجدوا لآدم " ولم يقل إلى آدم وفرقٌ بين " سجدتُ له " و " سجدتُ إليه " ، والسجود شريعة من الشرائع ، فلو أمرنا الله سبحانه أن نسجد لأحد من خلقه لسجدنا طاعةً وإتباعاً لأمره ، لأن أمره واجب ، فسجود الملائكة لآدم عبادةٌ لله وطاعةٌ وقربةٌ يتقربون بها إليه ، وهو لآدم تشريف ، ألم يقل الله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام " وخرّوا له سُجّداً " أي أن هذا كان من عادتهم أو شريعتهم جواز التحية بالسجود ... ثم إنَّ من تكريم الله تعالى لآدم أن الملائكة كلُّهم سجدوا بلا استثناء حتى جبريل وميكائيل عليهما السلام سجدوا لآدم ، والدليل على ذلك قول الله جل جلاله " فسجد الملائكةَ كلُّهم أجمعون "
رابعاً / قابلية الإنسان للوقوع في الخطيئة ...
إنَّ وقوع آدم عليه السلام في مخالفة أمرِ الله من الأكل من الشجرة يُقرِّر وجودَ القابلية للإنسان للوقوع في المعصية والخطيئة ، وهذه القابلية متأتية من طبيعة الإنسان ، فقد خلقه الله تعالى على طبيعةٍ تجعل وقوعه في الخطأ أمراً ممكناً ، وذلك لما جعله الله عليه من الميول والغرائز والشهوات التي هي جوانبُ ضعفٍ في الإنسان ، ومن الغرائز الكامنة فيه أنه يُحبُّ أن يكون خالداً لا يموت ، ويُحبُّ أن يكون لهُ مُلكٌ غيرُ مُحَدَّدٍ بأجل ، ومن هنا جاء إبليس لآدم من هذه الغريزة " وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " ولم يكتف إبليس بهذا التأكيد بل أقسم بالله على ذلك .. قال تعالى " وقاسمهما إني لكما من الناصحين " أي أقسم إبليس أنه ناصحٌ لهما ، وما هو بناصح !
إن كان الإنسان يملك مُيولاً وغرائز وله قابليةً في الوقوع في المعصية فإن ذلك لا يعني أن يستسلم لها ، بل لابد أن يكبح جماحه ويضبط غرائزه ، لأن أكثر ما يؤتى ابنُ آدم من الشيطان هو من قِبل غرائزه ، فيجب أن تكون تابعة لأحكام الشرع فعلاً وتركاً ، وحين يستسلم المسلم لغرائزه بلا قيد فإنها تورده المهالك ، كم حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض عبّاد بني إسرائيل الذين أفنوا أعمارهم في العبادة ثم لما وقعوا في ابتلاء الشهوات وقعوا ضحايا الزنى أو القتل أو الكذب ولم تُغنهم عبادتهُ ولم تعصمهم تلك الركعات ، لأن قوة الغرائز كانت أكبر من قوة الإيمان المهزوز في قلوبهم !
ومن هنا يجب على المسلم ألاّ يغفل عن تربية العبادات القلبية كالتوحيد والتوكل والاستعانة والصبر والإنابة والخوف والرجاء مع عدم إغفاله عن عبادات الجوارح كما قرَّر ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد ، حيث قال في معرض حديثه عن قوله تعالى " استجيبوا لربكم إذا دعاكم لما يحييكم " : أن المسلم قد يستجيب لله بجوارحه لا بقلبه وهذا نقصٌ في الاستجابة .
خامساً / خروج آدم وزوجه من الجنة بذنب واحد :
يا ناظراً يرنو بَعيْنَي راقد ومشاهداً لأمر غير مشاهَد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي دَرَجَ الحنان ونيل فوز العابدِ
أنَسيتَ ربَّك حين أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحدِ
قال الرازي رحمه الله : إنَّ مَنْ تصوَّر ما جَرى على آدمَ بسبب إقدامه على هذه الزلَّةِ الصغيرة كان على وجلٍ شديدٍ من المعاصي .
كثيرٌ من الناس اليوم قد استهانوا بالمعاصي كبيرها وصغيرها وذلك لجملة أسباب :
أولاً | ضعف توقير الله في القلوب ، ولو وقَّرَ العبدُ ربَّه وعظَّمه في نفسه لما تجرأ على معاصيه وعلى مخالفة أمره ، والعبد لا يدري أي الذنوب ستكون قاضية على دينهِ ومُهلكةً لآخرته ؟
ثانياً | قد يتجرأ العبد على المعصية لأنه قدَّم رحمة الله على عذابه وعفوِه على أخذه بالعقوبة .. فما مِنْ عاصي يُقدم على المعصية إلا وقد اغترَّ بالتوبة والعفو ولو أنه تذكَّر العقوبة لما أقدم عليها .
ثالثاً | ومن أسباب الاستهانة بالذنوب نسيان ما يترتب على الذنب من الخذلان وقلة التوفيق وانقطاع البركة في الأعمار والأرزاق ...
أيها الإخوة ... خرج آدم من الجنة بسبب ذنب واحد ! فما موقف مَنْ يخالف أوامر الله في يومه وليلته ؟ وما بالُ من يبارزه بالمحاربة مِنْ أكله أموال الناسِ بالباطل ونشر الفساد في الأرض ؟ وما بالُ مَنْ مَنَعَ حقوق الله في قطع الأرحام وعقوق الوالدين ؟ ما بالُ مَنْ ترك الصلوات وهجر القرآن ...
فالواجب على العاصي أن يبادر إلى التوبة كما بادر أبوه آدم إلى التوبة حتى تاب الله عليه ... وأما إذا عاند واستكبر عن التوبة والإنابة فإنه يشابه إبليس في كِبرِه وعناده ، فالفرق بين آدم عليه السلام وإبليس الرجيم : أن آدم عصى ربَّه فانكسر وذلَّ واعترف بخطئه فتاب فتاب الله عليه ، وأما إبليس فإنه لما عصى لم يعترف بخطئه واستكبر وكان من الكافرين .
سادساً / ومن دروس قصة آدم ..
درسٌ للأفراد والجماعات ودرسٌ لكل من يعمل للإسلام .. أن يتنبه لقول إبليس لربِّه " أنا خيرٌ منه " .. إنَّ الشيطان يرى نفسه خيراً من آدم في أصل خلقه وفي تكوينه وفي مكانته من الملائكة ، وهذا فيه ما فيه من الكبر والتعالي وتزكية النَّفس واحتقار آدمَ بسبب خِلقته الطينية .....
وعلى الدعاة اليوم كذلك أن ينبذوا هذه العبارة ولا يتجرأ أن يقول : أنا خيرٌ من فلان أو أنا أتقى لله أو أعبدُ لله من فلان ، أو تقول الهيئة أو الجماعة الفلانية : نحن خيرُ مَنْ يعمل للإسلام وغيرنا لا يعمل ، أو تقول : نحن على منهج الإسلام وغيرُنا على منهج الضلال ، إلا إذا كان ذلك من الحق البيِّن الواضح الذي يؤيده الكتابُ والسنة .
إن قولَ الرجل " أنا خيرٌ منه " قد تخترق الصف المسلم وتجعلُه شيعاً وأحزاباً ، فعلى العاملين للإسلام في كل نواحي العمل أن يحذروا من ازدراء الآخرين واحتقارهم حتى وإن كان عمل الآخرين ذكرٌ وتسبيح وركعاتٌ مباركات في زوايا مسجد ، وهل تنصرون إلا بضعفائكم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
أيها الأخوة ... قصة آدم هي قصة الخليقة الأولى ، والمتأمَّل في معانيها ودروسِها سيدرك حقيقة الصراع في هذه الحياة بين الإيمان والكفر والخير والشر وبين دعاة الفضيلة ودعاة الرذيلة ، وسيدرك أن الحياة بعد آدم عليه السلام من تتابع الرسل والأنبياء في دعوة الناس إلى التوحيد والإيمان والكمال الأخلاقي والإنساني إنما هو سلسلةً في تذكير الناس ألا يقعوا فريسة للشيطان وجنوده وأن يعتصموا بحبل الله المتين " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم "
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من حزبه المفلحين وعباده الصالحين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .