قصة سيدنا آدم عليه السلام ج1
اختار الله من بين خلقه فريقاً من البشر ليكونوا نموذجاً للكمال وعنواناً للفضل وقادة لركب الحضارة البشرية واحتفى بهم ليكونوا هداةً مصلحين ، فاختارهم عن علم وربَّاهم على سمعه وبصره ، وشرَّفهم بأكمل الأوصاف فجعلهم أحسن الناس خَلقاً وخُلُقاً وأقواهم عقلاً ورأياً ، فكانوا هُداة للناس ومبشرين ومنذرين يخرجون الناس من الظلمات إلى النور ... إنهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ...
ونحن في هذه الخطبة وفي خطب قادمة بإذن الله سيكون حديثنا عن قصص الأنبياء وأعظم الدروس فيها وأبرز العبر منها ... وسنستفتح الحديث في هذه الخطبة عن أبي البشر جميعاً ..عن آدم عليه السلام ...
قصة آدم هي قصة البشرية بأسرها وحياتُه وحياةُ هذا الوجود بأكمله .. إنها تاريخُ الحياة من بدايتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إنها قصةُ تلك الأجيال الكثيرة المتعاقبة التي مرَّت على هذه الأرض فعاشت فيها ثم رحلت عنها مخَّلفةً وراءها هذه الظاهرة وتلك الآثار ولسان حالها يقول :
تلك آثارُنا تدُّل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
لم يكن خلق آدم من تراب أمراً عادياً وطبيعياً ، إنما كان أمراً عظيماً تجلَّت فيه مظاهرُ القدرة الربانية التي تقولُ للشيء كن فيكون ، فهو خَلقٌ في منتهى الإعجاز والإبداع ، فلو اجتمع أهل الأرض جميعاً على خلق ذبابةٍ أو بعوضةٍ ما استطاعوا ، فكيف بخلقِ إنسان له عقلٌ وسمعٌ وبصرٌ وإدراك ... " فتبارك الله أحسن الخالقين " .. تبارك الله العلي العظيم الذي خلق آدمَ من قبضةِ التراب ِ إنساناً ناطقاً يسمع ويُبصر ويَفرح ويحزن يمشي ويتحرك ويُغيِّرُ هذا العالَم بل يكون خليفةً في الأرض يأكلُ من ثمارها ويصنع حضارتها وَيَّعمُرُ بنيانَها ويقيمُها على الدِّين الذي ارتضاهُ الله للإنس والجن ويجاهدُ في تحقيق العدل والتوحيد الذي من أجله قامت السموات والأرض ...
لقد حدثنا القرآن عن خلق آدم عليه السلام وأنه أولُ مخلوقٍ من النوع الإنساني فهو أبو الخلائقِ وأصلُ هذا العالَم ، لم يكن قبل آدم إلا الملائكةُ والجن ولهذا لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم قال للملائكةِ " إني جاعلٌ في الأرض خليفة " ...
فسألتِ الملائكةُ ربَّها سبحانه وتعالى على وجه الاستفهام لا على وجه الاعتراض " أتجعل فيها مَنّ يُفسِدُ فيها ويسفِك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " .. ظَنَّت الملائكةُ أن هذا المخلوق والإنسان الجديد سيفعل مثل ما فعلت الجنُّ في الأرض ، فقد كانوا يسكنون الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء حتى أرسل الله عليهم جبريل عليه السلام فقاتلهم حتى هربوا إلى البحار وإلى رؤوس الجبال ...
فقال الله تعالى ردا على سؤال الملائكة واستفهامهم " إني أعلم مالا تعلمون " أي إني أعلم المصلحة من خلق ذلك المخلوق وأنتم لا تعلمون ، إني سأجعل فيهم الأنبياءَ وأُرسلُ فيهم الرسل وسيوجَدُ فيهم الصِّديقون والشهداءُ والصالحون والعبَّادُ والزهَّادُ والأنبياءُ والمقربون والعلماءُ والعاملون والخاشعون والمحِّبون ... " إني أعلم مالا تعلمون " ، وإنها للفتة عجيبة من التواب الرحيم ومقدمة فيها اعذار لآدم عليه السلام قبل أن يخالف أمر ربه ويأكل من الشجرة ، إذ أخبر سبحانه وتعالى بنزول آدم إلى الأرض ليكون خليفة فيها قبل أن يقع منه الخطأ فيخرجه ربه من الجنة التي كانت له ولزوجه ، فالإخبار بنزوله إلى الأرض كان قبل أكله من الشجرة ! فسبحان التواب الرحيم العليم الخبير .
أيها الأخوة ... كيف خُلق أبونا آدم عليه السلام الذي تنتمي إليه البشرية كلها الأبيضُ والأسود والأحمر والأصفر والذكر والأنثى على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وهيئاتهم وطبائعهم ؟
لقد خُلق في زمان ... وخُلق على مراحل ...
أما الزمان .. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " خيرُ يومٍ طلعت فيه الشمس يومُ الجمعة فيه خُلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها " (١) .
وأما المراحل التي خلق منها ..
فأولها : التراب .. كان مصدر نشأته من التراب .. فحين أذن الله تعالى أن يخلق آدم أمر الملائكة أن يجمعوا تراباً من أنحاء الأرض ومن ألوان التربة ، قال تعالى " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " وقال صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض ، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلكَ السهل والخبيث والطيب وبين ذلك " ( ٢ ) .
وأما المرحلة الثانية : فقد خلقه من الطين .. أُخذ هذا التراب فخُلِط بالماء فأصبح طيناً متماسكاً يلتصق بعضه ببعض " إنا خلقناكم من طين لازب " أي متماسك ... ثم بقي آدم مدةً طويلةً من الزمن على صورته الطينية . قيل إنه مكث أربعين سنة حتى جَفَّ وتيبس فأصبح له صوتٌ يُشبه صوتَ الفَخَّار إذا ضُرِبَ باليد وَهو الصلصال " خلق الإنسان من صلصال كالفخار " ...
وأما المرحلة الثالثة : فهي مرحلة التكريم ونَفْخِهِ من روح الله تعالى نفخةُ الله تعالى في هذا الطين الجامدِ اليابسِ فيكونُ بشراً سوياً وإنساناً سميعاً بصيرا ... فنفخ فيه سبحانه وتعالى من رُوحه فقام وتحرك فكان سميعاً بصيرا ...
هذا خلق آدم عليه السلام : من تراب ثم من طين ثم نفخة من روح الله ، وأما خِلْقَةُ ذريته من بعده فلها أطوار تختلف .. فهم من نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم نفخة الروح " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ مخلقةٍ وغير مخلقة "
وبعد أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام أكرمه بالعلم فعلَّمه أسماء الأشياء في الأرض ، فهذا بحر وهذا نهر وهذا شجر وهذا حجر وهذا طير وهذا إنسان .. علمه الأسماء كلَّها .. وذلك حتى يتمكن من الحياة فيها والانتفاع فيها ... وأراد الله تعالى أن يُري الملائكة فضلَ هذا المخلوق على غيره حين علَّمه وأراد أن يُذكِّر الملائكةَ بسؤالهم حين قالوا " أتجعل فيها من يُفسِد فيها ويسفك الدماء " فسأل الملائكة عن أسماء الأشياء في الأرض فعجزوا عن الإجابة ، وحينها قال الربُّ سبحانه وتعالى " أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم " قال الله تعالى للملائكة " ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " .
وجاء الدور لتكريم آدم عليه السلام ، فبعد أن خلقه الله من تراب ونفخ فيه من روحه وفضلهُ بالعلم أمر الملائكةَ بالسجود لآدم سجودَ تحيةٍ وتكريم لا سجود عبادة ، فأطاعت الملائكةُ ربَّها وأذعنت لمولاها فخرَّت ساجدة لآدم إلا واحداً خنس وانزوى وانكمش وانتفش يقال له إبليس ، لم يكن من الساجدين وفَسَق عن أمر ربه وامتنع عن السجود كِبْراً وحسداً وبتأويل فاسد ...
قال الرب تبارك وتعالى : "يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديَّ أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإنَّ عليك لعنتي إلى يوم الدين "
وتأمَّلوا ؟.. طُرد إبليس ولُعِن من رحمةِ الله لأنه امتنع عن سجدةٍ واحدة فكيف بمن امتنع عن الصلاة ؟ طُرد إبليس من رحمة الله تعالى لأنه رفض الأمر الإلهي بتأويل فاسد ، فكيف بمن امتنع عن العمل بأوامر الله واتبع هواه بتأويلات وحجج واهية ؟
" قال اخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين " .
وبعد أن كتب الله اللعنة على إبليس وطرده من الجنة بعد أن كان من جملة الملائكة ، طَلَبَ من ربه الإمهالَ والإنظارَ إلى يوم يبعثون لحكمةٍ أرادها الله سبحانه وتعالى :
" قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأُغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين "
" قال رب بما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين "
" قال أرأيتك هذا الذي كرمت عليَّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا * قال فاذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاءً موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ".
" لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنهم ولأمنّينهم ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبينا " ...
إن إمهال الشيطان إلى يوم القيامة بعد إصراره على المعصية إنما ليزداد إثماً فوق إثمه ، وليكون رأسَ أهل الشر في العقوبة كما كان رأسُهم وقدوتهم في المعصية ، وليمتحن الله به العباد ويَظْهر خبيثُهم ومؤمنهم ، فمن أطاع الله وعصى الشيطان دخل الجنة ، ومن أطاع الشيطان وعصى الله تعالى دخل النار .
ومما ينبغي أن يعلم أن الله لم يستجب لطلب إبليس في الإمهال كما يظن بعض الناس ، فإبليس أحقر من أن يستجيب له ، ولكن لما علم إبليس أن العوالم العلوية كتب لها الحياة وعدم الموت وأن العوالم الأرضية تفنى وتموت ، ظن أنه حين طرد إلى العالم الأرضي أنه سيكتب عليه الموت مثلهم ، فطلب من الله الإمهال والإنظار ، فكان الجواب من الله تعالى ليس استجابة لطلبه بل تأكيدأ له أنه باق على صفة العوالم العلوية فلن يكتب عليه الموت ، فقوله " إنك من المنظرين " ليس استجابة له بل إخباراً عن حاله كما خلقه أول مرة ( قاله العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره ) .
أيها الأخوة ... وبعد امتناع الشيطان عن السجود والحكم عليه بالنار هو ومن تبعه من الإنس والجن قال الله تعالى لآدم عليه السلام " اسكن أنت وزوجك الجنة " وقد اختلف العلماء في هذه الجنة ، أهي في السماء أم في الأرض ؟ والأكثرون على أنها في السماء .. وأمَره الله تعالى أن يأكل من هذه الجنة ما يشاء إلا شجرة لا يحل له أن يأكل منها اختباراً وامتحانا له ولزوجه " فأزلهما الشيطان عنهما " أي بسبب هذه الشجرة ، إذ وَجَدَ الشيطان في المنع لهما مدخلاً للغواية ، وهكذا بني آدم لا يأتيهم الشيطان إلا مما حُرِّمَ عليهم ... " فأخرجهما مما كانا فيه " من اللباس والمنزل والرزق والراحة ... " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم " .. آدمُ عليه السلام يعصي ربَّه ثم يُعلمه ربه كلمات فيتوب عليه .. وهذا من رحمة الله الواسعة وهو مصداق قول الله " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما "
وأما الكلمات التي نطق بها آدم وحواء هو قولهما " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين "
وبعد أن تاب عليهما قال " اهبطوا منها جميعاًَ فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "
وهكذا عصى آدمُ ربه وعلَّمه كيف يتوب ثم تاب عليه ثم أُهبط إلى الأرض ...
وللحديث بقية في الخطبة القادم بإذن الله مع شيء من الدروس والعبر
نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من الشيطان الرجيم ومن جنده وأوليائه ...
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ...
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]