قصة نبى الله هود عليه السلام
حديثنا اليوم عن قصة هود عليه السلام ، وإذا ذُكر هود ذُكر معه قومُه الذين أُعجبوا بقوتهم وجبروتهم وقدرتِهمُ الخارقةِ على نَحْتِ الصخور والجبال ليجعلوا منها بيوتاً وقصورا ..
قومُ هود .. هم النموذج البيِّن الواضح لمن لا يرى قوةً إلا لنفسه ، ولا سلطاناً إلا لقومهِ ، ولا كلمةً مسموعةً في الأرض ولا مُطاعةً إلا له ، حتى قالوا بكل طغيان ...
" مَنْ أشدُّ منا قوة " !! ...
لقد ذكر هود عليه السلام في القرآن سبعَ مرات ، وهو نبيٌّ أرسله الله تعالى إلى قبيلةٍ عظيمةٍ من العمالقة تُدعى قبيلة عاد ، وفيهم قال الله تعالى " كذّبت عادٌ المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون " وعاد من القبائل العربية التي بادت ، فليس لها ذكْر بعد أن وقع عليهم العذاب ، وهم من أولاد سام بن نوح ، وسُمُّو بقوم عاد نسبةً إلى جَدِّهم عاد بن عوض بن إرم بن سالم ...
كانت قبيلة عاد تسكن أرض الأحقاف جهة اليمن التي تقع شمالَ حضرموت ، وفي شمالها الرُّبع الخالي ، وفي شرقها عُمَان ، وموقعهم اليوم رِمَالٌ وصحراء ليس بها أنيس ولا سمير بعد أن عَمَروا بلادهم بالقصور الشاهقة ، قال الله تعالى عنهم " واذكر أخا عادٍ إذ أنذر قومَه بالأحقاف وقد خلتِ النذُر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذابَ يومٍ عظيم " ... وعادٌ هذه هي عادٌ الأولى والتي تسمى عادُ إرم التي قال الله عنها " وأنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى " ..
كانوا من العمالقة الأشداء الأقوياء ، وزادهم الله بسطةً في الجسم والقوة ، ولم يكن يشابههم في قوتهم أحدٌ من أهل زمانهم ، حيث شهد القرآن بذلك فقال الله تعالى " ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرمَ ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد " أي لم يُخلق في البلاد كقوتهم وبطشهم وأجسامهم ، فكانوا من شدتهم وقوتهم يبنون القصور الشامخة والقلاع والحصون ، وزادوا من الترف والنعم حتى غرقوا في البساتين ، والعيونُ تحيطهم من كل مكان ، قال الله تعالى عنهم " أتبنون بكل ريع آيةً تعبثون " أي أنّ قومَ عادٍ كلما رأوا مكاناً مرتفعاً من الأرض وهو الرِّيع بَنَو عليه بنياناً ضخماً شاهقاً ، ليس لحاجتهم إليه ، بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ، ولهذا أنكر ربُّهم عليهم ذلك لأنَّه تضييعٌ للزمان وإتعابٌ للأبدان وصرفٌ للأموال في غير ما خُلقتْ له ، وهذا مثلُُ بعضِ ما يفعله بعض أصحاب الأموال حين يتفاخرون بالأبراج الشاهقة التي تناطح السحاب ، ليس لهم هدف فيها إلا تضييع المال والتباهي والقوم وكثرة الأموال ..
وعادةُ الله في مثل هؤلاء أن تذهب أموالُهم ومباهاتُهم أدراجَ الرياح حتى يكونوا أمثالَ الناسِ العاديين ، لأن القوةَ والجبروت والكبرياء لله وحده ..... " أتبنون بكل ريعٍ آيةً تعبثون * وتتخذون مصانعَ لكم تخلدون " .. المصانع هي المنازل والقصور ، وقوم عاد كانوا يبنون قصوراً عاليةً وكأنهم سيُخلَّدون فيها ، فأنكر الله عليهم فعلَهم ذلك ، لأنَّ من يبني مثل هذه القصورِ الجميلةِ كأنه يطمع في الخلود في الدنيا ويتناسا القدوم على الله تبارك وتعالى، وهي إشارةً لكل صاحبِ مال أن يتقي الله في أموالهِ وفي بنيانه وقصوره أنْ كفى إسرافاً وتبذيراً ، فأعظم الأموال بركةً حين تُصرف في طاعةِ الله وفي سبيل الله .
كان قومُ عاد من شدة قوتهم وصلابة أجسامهم أنهم كانوا إذا مشوا على الأرض كانت تهتز من تحت أقدامهم ، لِثِقَلِهم كأنهم الجبال لفرطِ طولهم وضخامة أجسامهم ...
وإزاء هذه الصفات العظيمة في قوم عاد كيف كانت عبادتهم ؟ لقد جمع قومُ عاد الشرورَ كلَّها فجمعوا ما بين الكفر والقوة ، وإذ اجتمعت هاتان الصفتان في قوم فلا تسلْ عن الظلمِ والطغيانِ في الأرض !
أمّا عبادتهم فقد قال ابن كثير رحمه الله، عنها : كانت لهم أصناماً ثلاثة ، صَدَا وصمودا وهَرا ، وكانوا عَرَباً جفاةً عتاةً كافرين متمردين على الله ، وهم أولُ من عَبَدَ الأصنامَ بعد الطوفان ، وإذا عبد الناس الأصنام وانتشر الشرك في الأرض وعم الفساد بين الناس فوقع الكفر والعناد .. فقد وقعت غيرة الله تعالى على حرماته وعلى دينه ، ولن تكون الدنيا للشيطان مرتعا ليصول ويجول فيها ، وسيرسل الله الرسل وسينزل الكتب ليدعوهم إلى التوحيد ويبعثوا فيهم روح الفطرة الأولى ، وهكذا تتجلى رحمة الله بعباده ، فهو أرحم من أن يدعهم بلا داعي يدعوهم أو مصلح ينقذهم من غواية الشيطان وجنده وأوليائه .
أبها الإخوة ... في مثل هذه الأوضاع أَرْسَلَ الله تعالى هوداً عليه السلام رحمةً منه سبحانه وتعالى ليقومَ بواجب الإنذار والبلاغ والتبشير والتخويف ، ويُذكّرهم بفضل الله عليهم حين منحهم القوة والمال والبسطة في الأجسام ، ويذكّرهم بالعاقبة الجميلة للتوبة والاستغفار ، وأنها تزيدُهم قوةً إلى قوتهم فقال الله عن هود عليه السلام " وإلى عادٍ أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون * يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون " وعلامة الرسول أنه لا يأخذ أجراً مادياً على دعوته ورسالته ، وكذلك يجب أن تكون العلامةُ على صدق الداعية أنه لا يأخذ أجراً أو مالاً على دعوته ، فإذا تكلم أو دعا أو وعظ من أجل حفنةٍ من المال زالت البركة من دعوته ، وذهب التأثير في كلماته ، وغدا أضعفَ ما يكون بين الناس .
ثم قال هود عليه السلام مذكراً بفضائل العودة إلى الله ومُبيّناً أثر التوبة " يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين " فكثرة الاستغفار يزيد المسلمَ قوةًً في قلبه وفي إيمانه وفي علمه وفي بدنه ، ولهذا يقول العلماء : من كان عقيماً أو صاحب ديْن أو مريضاً أو هزيلاً في بدنه أو ضعيفاً فيعقله فليكثر من الاستغفار والتوبة بلا عد ولا حصر ، فإن من آثارِ كثرة الاستغفار تفريجُ الهموم وتنفيس الكروب والشفاء من الأمراض والأسقام .
إزاء نصح هود عليه السلام لقومه وحرصه عليهم جابَهَهُ قومُهُ بالإعراض والصد والتكذيب ، وقالوا " يا هود ما جئتنا ببينه وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إنْ نقول إلا اعتراك بعضُ آلهتنا بسوء " وقال الله تعالى مخبراً باغترارهم العظيم بقوتهم " فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَنْ أشدُّ منا قوة أولم يروا أن اللهَ الذي خلقهم هو أشدُّ منهم قوةً وكانوا بآياتنا يجحدون " ،
فلما لم يؤمنوا قال هود عليه السلام " إني أُشهدُ الله واشهدوا أني بريءٌ مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها إن ربي على صراطٍ مستقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلتُ به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ "
فلما طغت عادٌ وتمردت على نبي الله هود عليه السلام وتمادت في العصيان حَبَسَ الله عنهم المطر ثلاث سنين ، حتى اشتدَّ عليهم الجَهْدُ والبلاء واستغاثوا واستنجدوا ، فأرسل الله عليهم سحاباً كثيفاً من السماء ، فلما رأوا السحاب فرحوا واستبشروا وظنوا أنه مطر غزيز وأن الله تعالى قد تداركهم برحمته واستجاب دعاءهم ، فلما أظلَّتهم السحابة ورأوها سوداء قاتمة فزعوا منها وارتعدت قلوبهم من منظرها ، ثم هبَّت عليهم ريحٌ قويةٌ عاتية سماها الله تعالى الريحَ العقيم ، سلَّطها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حاسمة ، فأهلكهم الله وأبادهم هم ومواشيهم وبساتينهم في ثمانية أيام ، حتى شبّه الله تعالى أجسامَهم كأنها أعجاز نخلٍ خاوية ، وفي آية أخرى " كأنهم أعجاز نخلٍ منقعر " فالجثث كانت ساقطة ومُجتثة من أصولها ومتناثرة في كل مكان ، في مشهدٍ مُروّعٍ مخيف ولم يبق منهم أحد ، حتى سُمُّوا بالعرب البائدة ، ولم يكن لهم عقب بعدها ، لأن الريح الباردة العاتية قد أزالت وحَسَمت كل شيءٍ في أنفسهم وديارهم . قال الله عنهم في سورة الأحقاف " فلما رأوه عارضاً مُستقبلَ أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليم * تدمّر كلّ شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهُم كذلك نجزي القوم المجرمين " وهذه الريح سماها الله الريح العقيم قال تعالى " وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شيءٍ أتت عليه إلا جعلته كالرميم " .
ثم إن هوداً عليه السلام بعد أن أهلك الله قومَه ، سَكَنَ بلادَ حضرموت حتى مات ودفن بها قريباً من ترِيم ، وقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ عاداًّ مدفونٌ في كثيبٍ أحمر وعند رأسه سَمُرة ( أي شجرةُ السَّمُر ) ...
أيها الإخوة ... من دروس قصة هود مع قومه ...
أولاً : التوحيد أولاً ..
بعث الله تعالى جميع الرسل ليقولوا للناس " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " وقال " وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وهذا ما يجب أن ينّتبه إليه الناس في كل زمان وفي كل عصر ، وما يجب أن يدركه المسلم العامي والمثقف وهو يقرأ قصصَ الأنبياء وهم يدعون أقوامَهم إلى التوحيد ، أن يسعى جاهداً في تنقية التوحيد في قلبه ، وفي تصفيته من الشرك الأكبر والأصغر والخفي ، وأن يكون على حذر دائم من كل ما يخدش توحيده لله تعالى ، وأن يكون الإيمان والتوكل والتعلق والاستعانة والاستغاثة وسائر أعمال التوحيد أن تكون لله وحده ، ولا يشرك معه لا نبيٌ مرسل ولا ولي مقرَّب ولا رجل صالح ولا صاحب قبر ، مهما علت مكانته وظهر صلاحه ، فكلُّهم لا يغني من الله شيئاً " .. فالتوحيد هو أهم ما دعت إليه الرسل ومن أجله جاهدوا وصبروا وتحملوا صنوف الأذى والبلاء .
ثانياً : من دروس قصة هود عليه السلام : أن الله تعالى لا ينظر إلى قوة الأجسام وضخامة البنيان ولا الدور ولا القصور ، بل ينظر إلى التوحيد والإيمان والاستسلام لحكمه ، فكل ما بناه قوم عاد من الصور والمصانع تلاشى في ثمانية أيام من العذاب ، ولم يُستثن إلا هود عليه السلام لإيمانه وتوحيده وعمله الصالح ، وهكذا هو سبيل النجاة لكل أمة " وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " ، " فأنجينا الذين آمنوا معه وأخذ الذين ظلموا الصيحة " إنها سنة الله في المكذبين وسنة الله في المتقين . والمتأمل في كتاب الله تعالى يدرك أن البناء والتشييد لم يكن يوماً هو موضع نظر الله تعالى أو مدحه أو ثنائه ، فكل ما أثنى عليه القرآن من العمل هو التوحيد والإيمان والعمل الصالح والعبادة بمعناها الشامل في كل مناحي الحياة ، ولم يأمر بتشييد عمران ولا بناء شاهق ولا زينة لأنها ليست دائمة ولا خالدة ، فالعمران الحقيقي والبناء الشاهق هو أن بناء التوحيد والعمل الصالح مع إعطاء الدنيا حقها من غير إفراط ولا تفريط .
ثالثاً : من دروس قصة قوم عاد أن الأموال يجب أن تصرف في مصارفها الصحيحة ، لا تُبعثر ولا يُلعب بها كما تلاعب بها قوم عاد ، لأنَ مصير التلاعب والإسراف في الأموال هو الفقر والخسران والبوار .. كما قال الله تعالى " كأن لم يغنوا فيها ألا إنّ عاداً كفروا ربّهم ألا بعداً لعادٍ قوم هود " ،
نسأل الله أن يحفظنا وإياكم وأن يرزقنا وإياكم الإيمان والتقوى ...
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]