قصة نبى الله إبراهيم عليه السلام - ج١
بعد أن ذكرت قصة نوح عليه السلام سيكون موعدنا اليوم مع قصة إبراهيم عليه السلام، أبي الأنبياء والجدِّ الأكبر لرسولنا صلى الله عليه وسلم محمد من ولد إسماعيل وإسماعيل من ولد إبراهيم فهي ذريةُ الأنبياءِ المباركة الصالحة صلواتُ الله عليهم أجمعين .....
وإبراهيم عليه السلام خصَّهُ الله بخصائص ومزايا عظيمة ، فجعله أبا الأنبياء وإمام الأتقياء والحنفاء، وقدوةً صالحةً للمرسلين ، واختاره الله تعالى خليلاً له ، ومن ذريته تناسل الأنبياء ، فجميع بني إسرائيل من نسله لأنهم من أولاد يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ..
فمِن إبراهيم عليه السلام تتفرَّعُ النبوة " ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " ومحمد صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بإبراهيم في صورته وخلقته ، قال صلى الله عليه وسلم : " أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم " رواه البخاري .
ينتهي نسبُ إبراهيم إلى نوح عليهم السلام ، وكان بينه وبين نوح مدةً تزيد عن ألف سنة .. وأما أبوه فهو آزر ، وفي التوراة أنه تارِحْ ، والصحيح أنه آزر بدليل القرآن والسنة ، أما القرآن فقوله تعالى " إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهةً " ، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يََلقْى إبراهيمُ أباه آزرَ يوم القيامة وعلى وجه آزر قَترَةٌ وغَبَرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقلْ لك لا تعصِني ؟ فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يا رب إنك قد وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون وأيُّ خزيٍ أخزى من أبي الأبعد ، فيقول الله : إني حرَّمْتُ الجنة على الكافرين .. ثم يقال يا إبراهيم : ما تحت رجليك ؟ فينظر فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار " رواه البخاري
ومن صفاتِ إبراهيم العظيمة والجليلة أنه يكنى بأبي الضيفان وذلك من كثرة ضيوفه وشدة كرمه لهم فلا ينزل أحدٌ عنده إلا أحسن ضيافته ولما جاءه الملائكة ونزلوا عنده راغ إلى أهله خفيةً وجاء بعجلٍ حنيذ .. وذلك من كرمه الجَم وأدبه الرفيع .
وُلد إبراهيم عليه السلام في أرض بابل بالعراق ونشأ في وسط بيئةٍ تمتلئ بالفساد والأصنام وعبادة غير الله ، وكان يحكمها ملك طاغية وهو النمرود بن كنعان ... فانتشرت صناعة التماثيل بينهم ،حتى كانوا ينحتونها بأيديهم من شدة تعلقهم بها ثم يجعلونها أرباباً من دون الله .
وُلد إبراهيم في هذا الجو الفاسدِ الصعب ، ولكنَّ الله تعالى رعى إبراهيم وحفظه وحماه من هذه الأصنام وحفظه من أن يَعْبُدَها معهم ، فلم يَسْجُد لصنم ولم يَعْبُد غيرَ الله ولم يرض أن يكون مشاركاً لقومه في عبادة الأصنام .
وحين شب إبراهيم ورأى ما عليه قومه من عبادة الأصنام ، انطلق يدعوا قومه رحمةً بهم وشفقةً عليهم ، فبدأ بأقرب الناس إليه فبدأ بأبيه آزر ، فأخذ يدعوه إلى التوحيد والإيمان ولكنَّ أباه رفض دعوته وكفر برسالته ولم يؤمن وكان الواجب أن يفرح بصلاح ولده وبرسالته وبرجاحة عقله ، لكنه الكفر والشرك الضاربُ في أعماق قلبه ...
وتأملوا إخبار الله تعالى في الحوار المفعم بالرحمة والشفقة من الابن لأبيه والذي دار بين الولد ووالده " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً * إذ قال لأبيه يا أبتِ لم تعبد مالا يسمعُ ولا يبصرُ ولا يغني عنك شيئا * يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سويا * يا أبتِ لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبتِ إني أخاف أن يمسك عذابُ من الرحمن فتكون للشيطان وليا * قال أراغبُ أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي جفياً " .
إنه حوار مُفعم بالحنان والرحمة والحبِّ الصادقِ من الولد لوالده ولكنَّ آزر ردَّ دعوة التوحيد وأبى أن يستجيب لنداء الفطرة والعقل وكان من الكافرين ..
وبعد أن انتهى من دعوة أبيه توجَّه تلقاء قومه يدعوهم ويرغِّبهم في الإسلام بالبراهين والأدلة العقلية والمنطقية مستخدماً كلَّ ما سخَّره الله من السموات والأرض والكواكب والشمس والقمر ليصل بهم إلى الإله الواحد ، وقد كان أسلوبه في دعوتهم ذكياً ورائعاً ، وبعض الناس قد فهم من سياق الآيات أنها تدل على أنه شارك في عبادة الشمس والقمر والكواكب وهذا خطأ في فهم الآية ، بل كان مثلاً واستدلالاً منه ليصل بهم من خلالها إلى الله الواحد ، ... قال الله تعالى عن أسلوبه في الدعوة " وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهديني ربي لأكوننّ من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين " .
إنها طريقة اختارها خليلُ الرحمن إبراهيم عليه السلام لدعوة قومه ، ولكنهم حاجُّوه وجادلوه ولم يؤمنوا ، ولمَّا لم ينفعْ مع قومه أسلوب الإقناع العقلي والمنطقي اتخذ أسلوباً آخر ربما كان أكثر قوةٍ وصرامة وأدفع للحُّجة ، وذلك عن طريق تحطيم هيبة الأصنام في قلوب قومه وإثبات أنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع وأنها لا تملك لنفسها نفعاً ولا تدفع عنها ضُرا ...
ففي يوم عيدهم الذي كان من عادتهم أن يخرجوا فيه من المدينة للترويح والترفيه واللعب ، استغل إبراهيم عليه السلام هذا الوقت وتوجَّه صوب المعبد ورأى الأصنام فلطمها بيده وركلها برجله وأخذ الفأس وحطمها صنماً صنماً فجعلها جذاذاً وقطعاً متناثرة في كل مكان من المعبد ، ولم يترك إلا صنماً واحداً وهو أكبرها ، فذهب إليه وعلق الفأس في عنقه ثم خرج تاركاً وراءَه ركاماً هائلاً من حطام التماثيل والآلهة المزعومة التي لم تتمكن من الدفاع عن نفسها .. فما أشقى القوم وما أحقر عقولهم ...
رجع أهل المدينة من يوم عيدهم فتوجهوا إلى المعبد كعادتهم ليقدموا الطاعة والولاء للأصنام، فلما دخلوا المعبد وإذا بالدهشة تعلوا وجوههم والصدمة تأخذ بمجامع عقولهم من هول ما رأوا من الآلهة المتناثرة ، فقالوا " مَنْ فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " .. وسكت الجميع ..
وإذا بأحدهم يقول " سمعنا فتىً يذكرهم يُقال له إبراهيم " فَغَلَتْ قلوبهم حقداً وكمداً على إبراهيم ، وعزموا أن يأتوا به أمام حشد من الناس ليشهدوا إقراره بفعلته الشنيعة ... وهذا ما تمنَّاه إبراهيم وفرح به ، إنه يترقب لحظة اجتماع الناس حتى يصدع بكلمة الحق ويُعلنَ التوحيد وليقدِّم البراهين على فساد عقولهم وضعف آلهتهم التي لا تدافع عن نفسها ، وأيّ إلهٍ لا يدافع عن نفسه !!
جاء الناس من أطراف المدينة ليشهدوا المحاكمة غيرَ العادلة والأحكامَ المسبقة ... وانطلق صوتُ كبيرهم .. أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟؟
وسادت لحظة صمت .. لينظر الناس الاعتراف بالجُرم ، ويالها من لحظة !! فانطلق صوتُ الرسول النبي الخليل .. ليُبطل حقيقة هذه التماثيل .. فقال : " بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون "
فنكَّس القومُ رؤوسهم خجلاً لعلمهم أن الأصنام لا تتكلم ، فقالوا " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " !
وهنا انطلق إبراهيمُ يَعِظُ قومه ويُذكرهم بالخالق سبحانه وتعالى مهتبلاً هذه الفرصة السانحة المجلجلة في جمع من الناس ، فقال واعظاً ومذكّراً " أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " .
ولما عجز القوم الكافرون المعاندون ولم يستطيعوا أن يدفعوا حجة إبراهيم عليه السلام انتقلوا إلى القوة والبطش والعذاب التي هي وسيلة الطغاة والمتجبرين في كل زمان ومكان حين يعجزون عن رد الحجج ، فإنهم يلجؤون إلى القوة والسُّلطة، كما فعل قوم نوح حين قالوا " لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين " وحين قال قوم لوط " لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين " وحين قال فرعون لموسى لما عجز عن محاججته " لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين " ... فإما نفي وإما قتل وإما سجن !! إنها أدوات الطغاة في كل عصر ! وما ؟ أشبه اليوم بالبارحة ! وهكذا كان أسلوب قومِ إبراهيم عليه السلام مع نبيهم ... فصدرت الأحكام على إبراهيم بالإعدام حرقاً حتى الموت !! فَجَمَع الناس الحطب ، وضاق المكان به ، وأضرمت النيران وتأجَّجت وارتفع صوتُها ولهيبُها وأتوا بإبراهيم عليه السلام مقيداً بالأغلال فرموه في هذه النار العظيمة جزاءً لما فعل بآلهتهم ...
ولكنَّ الله الذي أرسل إبراهيم عليه السلام إلى قومه هل ينساه في هذه اللحظة الحرجة ؟ هل ينساه وهو نبيه ورسوله ؟ هل ينسى من يدعوا لربه آناء الليل وأطراف النهار ؟ .. الله الذي اختار إبراهيم هل يتخلَّى عنه في هذه اللحظات العصيبة ؟ الله الذي اختاره خليلاً وصفياً هل يدعه يُقتل بهذه الطريقة ؟
" قلنا يا نارُ كوني برداً وسلاماً على إبراهيم " لم تكن النار برداً فحسب ... فالبرد قد يؤذي ... ولكنْ برداً وسلاماً ... قال ابن عباس رضي الله عنهما : أن إبراهيم حين ألقي في النار قال : حسبي الله ونعم الوكيل "رواه البخاري
قال الله تعالى " وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين " .. خرج إبراهيم من النار يمشي أمام الناس ولم تتعرض له النار معجزةً من الله على نبوة إبراهيم عليه السلام .. ثم بعد أنْ نجاه الله من النار واطمأنّ أنه قد أقام الحجة عليهم قرَّر أن يهاجر إلى بلاد المقدس ، فهاجر هو وزوجُه سارة ، ثم لمَّا أصاب الشامَ الجدبُ والقحط هاجر إلى مصر ، وكان له فيها مواقف وابتلاءات . ولعلي أذكرها في الخطبة القادمة إن شاء الله ...
أيها الإخوة ... أهم ما يميز شخصية إبراهيم عليه السلام عدة أمور :
أولها : أنه شخصية واضحة المعالم " إذ قال له ربُه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " فبمجرد أن أمره ربُه بالاستسلام والانقياد قال أسلمت وأجبت ... وربما يميز شخصيته أنه لم يتأثر بالبيئة الفاسدة التي عاشها قومُه ، بل كان يسعى للتغيير والتأثير وعدم الاستسلام لفساد الواقع أو اليأس من محاولات إصلاحه وتغييره ، وهكذا كل مسلم يجب ألا يستسلم لواقعه الفاسد وأن يسعى لإصلاحه وتغييره بكل وسيلة شرعية ممكنة ، مراعياً تحبيب قومه له وتلطفه معهم ، حذراً من خلق العداوات ، بل مهمته التغيير والإصلاح حسب الممكن المتاح ، رائده في ذلك : الحب والرحمة .
ثانياً : ومما يميز شخصيته عليه السلام أنه لا ترهبه كثرة المبطلين بل يبقى مستعلياً عليهم دون أن يصيبه الإعجاب أو الخوف أو التردد ، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال تكسيره للأصنام ، ومن خلال إحضاره أمام الناس لمحاكمته وإحراجهِ بالسؤال " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " فكان جوابُه قوياً صارماً أمام الناس جميعاً لأن هدفه كان واضحاً وهو الدعوة إلى التوحيد والإسلام ، فلم يرتبك ولم يتردد ولم يهاب الموقف .. " بل فعله كبيرهم هذا "
إنها عناية الله تعالى بالأنبياء والرسل الذين يختارهم فيرعاهم ويربِّيهم ويُعلمهم ويحميهم ويهب لهم القوة والحجة على مقاومة الخصوم أو دعوتهم بالحسنى ...
للحديث بقية في الخطبة القادمة بإذن الله .. في هجرة إبراهيم إلى مصر وما جرى له ولزوجه سارة عليها السلام ...
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ...
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]